You are currently viewing اصول المعرفة

اصول المعرفة

آية الله الشيخ ماجد الکاظمي

العدد الاول

و بعد فهذا بحث مختصر حول اصول التفکير الصحيح للوصول الی المعرفة الصحيحة.

الاصل الاول:

الايمان بالواقع الخارجي، فالتشکيك في واقعيّة العالم و إنکاره و اعتباره خيالاً في خيال ينهي التفکير العقلي و البحث العقائدي من أساسه.

ثم أنه لو أنکر أنسان واقعيّة العالم الخارجي؛ فکيف يتم التفاهم معه، و من ثم إقناعه و إرجاعه نحو الحقيقة؟.

و البحث حول الموضوع ليس بحثاً قائماً علی البرهان العقلي أو مستنداً الی الأوليات و البديهيّات؛ لأن من ينکر الوجود الخارجي، ينکر کل شيء،

و لايتم جوابه إلا بالجواب القائم علی الالزاميات و الفطرة حينذاك يرجع هذا الانسان المريض أو المتجنن الی وضعه السوي و السليم.

و من المعلوم إن توضيح الواضحات من أشکل المشکلات فواقعية العالم من الامور البديهية التي لاتحتاج الی دليل ولابرهان.

الاصل الثاني: من جملة أصول المعرفة الإيمان بالعقل کأساس للتفاهم البشري. و المراد من العقل؛ هو مجموعة الإدراکات البديهيّة التي  لاتحتاج الی دليل و برهان، و علی رأسها قانون العلية (من ان لکل معلول علة و لکل أثر مؤثر) و قانون عدم التناقض، و التي علی اساسها يقوم البرهان.

فالعلوم النظرية تقوم علی العلوم البديهية المودعة في عقل کل إنسان. فلو أنکر الانسان العقل و المذهب العقلي في التصور و التصديق؛ فحينئذ سوف لايمکنه الوصول الی إثبات أي حقيقة من الحقائق، حتی بالنسبة الی القضايا الحسيّة و التجربيّة.

و بما أن الإيمان بالعقل و بديهياته من الضروريات التي لايمکن إنکارها، فلا طريق لإثباتها إلا الأدلة الالزاميّة و الفطريّة.

   مذهب الماديين :

يری الماديون ان المصدر الوحيد للمعارف البشرية هوالحس و التجربة و يرفضون كل المعارف التـي لاتقوم علی اساس الحس و التجربة.

و جواب هذا المذهب ‌واضح حتی قيل ان احد الماديين كان معلماً فـي احدي المدارس و قد قال لتلاميذه لاتصدّقوا و لاتؤمنوا بشىء لاترونه ثم سأل التلاميذ فهل ترون الله –جلّ و علا – فقالوا لا، فقال لهم فلا تصدّقوا بوجوده فقام اليه احد الصبيان و استأذنه بان يسأل التلاميذ فسألهم الصبي هل ترون عقل الاستاذ فقالوا: لا فقال الصبي اذاً هو مجنون، فالحقيقة انّ جعل المقياس للمعارف البشرية هو الحس و التجربة فقط واضح البطلان لايقبله احد من العقلاء بل الكل يذعنون بوجود معارف صحيحة و يقينية لم ‌تخضع للحس و التجربة بل و لا ربط لها بالحواس مثل الايمان باستحالة التناقض و استحالة اجتماع الضدّين و انّ لكل أثر موثراًَ و كالايمان بالقواعد و القوانين العامة و الكلية في العلوم المختلفة و هي مع‌كليتها و عموميتها غيرحسية و لم‌تخضع للتجربة فلوكان الفكر محبوساً في حدود التجربة و لم‌ يملك الانسان معارف‌مستقلة عنها لما اتيح له ان‌ يحكم باستحالة شـىء من الاشياء مطلقاً لان الاستحالة بمعنی عدم امكان الشـىء مطلقاً ليس مما يدخل في نطاق التجربة و لا يمكن للتجربة ان تكشف عنه و غاية ما يمكن للتجربة ان تدلل عليه هو عدم وجود اشياء معينة، لكن عدم وجود شـىء لا يعنـى استحالته فهنالك عدة اشياء دلت التجربة علی عدمها و مع ذلك فنحن لا نعتبرها مستحيلة و لا نسلب عنها امكان الوجود كما نسلبه عن الاشياء المستحيلة كاجتماع النقيضين. و هذا الحكم بالاستحالة لا يمكن تفسيره الا علی ضوء الايمان بالعقل بان يكون هذا الحكم من المعارف العقلية المستقلة عن التجربة و علی هذا الضوء يكون الماديون بين طريقين لاثالث لهما:

فامّا ان يعترفوا باستحالة اشياء معينة و اما ان ينكروا مفهوم الاستحالة من الاشياء جميعاً. فان امنوا بالاستحالة كان هذا الايمان مستنداً الی معرفة عقلية مستقلة لا الی التجربة و ان انكروا مفهوم الاستحالة و لم‌يقروا باستحالة شـىء (و ان كان هذا الانكار غريباً لدي العقل( فلايبقـى فرق حينئذٍ بين عدم اجتماع النقيضين الذى ندرك عدم امكانه اصلاً و بين كثير من الامور المعدومة التي ندرك امكان وجودها في حين ان الفرق بينها مما يشهد به الوجدان و جميع العقلاء و منكره مكابر و اذا سقط مفهوم الاستحالة لم يكن التناقض مستحيلاً يعنـى وجود الشـىء و عدمه و صدق الشـىء و كذبه.

و جواز التناقض معناه انهيار جميع المعارف و العلوم و عدم تمكن التجربة من ازاحه الشك و التردد في اي مجال من المجالات العلمية فالتجربة و ان دلت علی صدق قضية معينة لكنا لا يمكننا الجزم بذلك اذا جوّزنا التناقض و انه ليس بمحال فمن الممكن حينئذٍ ان تتناقض الاشياء و تصدق و تكذب في وقت واحد.

هذا و قد سجل العلماء علی هذا المذهب ملاحظات عديده نذكر قسماً منها:

1- ان القائلين بمقياس الحس و التجربة لم يأتوا و لا بدليل واحد يثبت قصور العقل عن الوصول للمعارف الخارجة عن نطاق الحس و مجرد حاجة الانسان الی عمليات الحس و التجربة و اهميتها لاينفي قابلية الانسان للحصول علی معارف غير حسية.

2- عدم اعتراف المذهب‌الحسي و التجربي لفاعلية العقل ‌و قدرته علی الوصول الی مجموعة من المعارف يخالف الواقع لانّنا لو راينا رقم 27 مثلاً و رقم 23 مثلاً مكتوبين علی لوحة امامنا و أردنا ان نجمع في ذهننا بين هذين العددين لكان الحاصل منهما (50) و لواردنا ضربهما كان حاصل‌الضرب (631) و هنا نسأل هل ان الاختلاف بين حاصل‌جمع هذين‌العددين و بين حاصل‌ضربهما ناشیء من‌الحس او من فاعليةالعقل؟ و لا شك انه لا يمكن القول بان اختلافهما ناشیء من الحس و ذلك لان الاحساس بهما لم يختلف في عمليتي الجمع و الضرب.

3- اننا نسأل  الماديين الذين يعتقدون بأن «الحس و التجربه المقياس الاساسي لمعرفة الحقيقة لاغير» فهل انهم حصلوا هذا المقياس من دون تجربة سابقة او أنه كسائر المعارف البشرية لابد من اكتسابه و العلم به بواسطة التجربة؟ فان قالوا بالاول و انه من المعارف الخارجة عن نطاق التجربة فقد ابطلوا مذهبهم الذي لايؤمن بالمعارف الاولية و ثبت وجود معلومات انسانية ضرورية،و ان‌قالوا بان هذه‌المعرفة محتاجة الی‌تجربة فمعنی ذلك اننا لاندرك في بداية الامر ان الحس و التجربة مقياس مضمون الصدق فكيف يمكن البرهنة علی صحته و اعتباره مقياساً بتجربة مادامت غير مضمونة الصدق بعد‌.

4- يتوقف الادراك الحسي غالباً علی اكثر من حاسة فالتفاحة مثلاً نراها بحاسة البصر و نلمس نعومتها بحاسة اللمس و نشم رائحتها بحاسة الشم و نسمع صوت اصطدامها بالارض بحاسة السمع و اما تمركز جميع هذه الاحساسات في مكان واحد و جوهر واحد فهذا مالايمكن الاحساس به و علی هذا الاساس فان المذهب الحسي و التجربي عاجز عن اثبات المادة و ذلك لان المادة لايمكن الكشف عنها بالتجربة الخالصة بل كل مايبدو للحس في المجالات التجربية انما هو ظواهر المادة و اعراضها و اما نفس المادة يعني الجوهر الذي تعرضه تلك الظواهر و الصفات فهو لايدرك بالحس و انما العقل يدرك وجوده بالاستناد الی معارفه الاولية من البديهيات من ان لكل معلول علة و ان ما انعكس في الذهن من احساسات بصرية و سمعية و ذوقية و لمسية و شمية لم يكن من العدم لان حصول هذه الصور الحسية بلاعلة محال و عليه فيثبت وجود المادة لانها العلة في تلك الاحساسات و اذا ما انكرنا قانون العلية بين الاثر و المؤثر فسوف لايمكننا اثبات نفس المادة و لذا فقد انكر عدة من الحسيّين التجربيين وجود المادة و وقعوا في السفسطة كما و انهم كانوا عاجزين عن اعطاء تعليل صحيح للعلية بين الاثر و المؤثر فان الحس و التجربة لايمكنهما الا ان يوضحا لنا التعاقب بين ظواهرمعينة  اما سببية احدي الظاهرتين للاخري فهي مما لاتكشفها وسائل التجربة مهما كانت دقيقة و مهما كررنا استعمالها و اذا انهار قانون العلية بين الاثر و المؤثر انهارت جميع العلوم الطبيعية لانه لايمكن بناء قاعدة عامة و قانون كلي علی ضوء تجربة واحدة او عدة تجارب الا بعد التسليم بعلية هذا المؤثر لهذا الاثر و هي لم‌تكتسب من التجربة فاما ان نؤمن بها خارجاً عن نطاق الحس و التجربة فقد بطل المذهب الحسي و التجربي و ثبت وجود معارف اولية سابقة علی التجربة و الحس و ان لم نؤمن بها كما انساق الی ذلك دافيد هيوم و جون ستيوارت مل فلم يؤمنا بقانون العلية و لذلك فسر هيوم العلية برابطة تداعي المعاني و قال انه يصحب هذا التداعي نوع من الالزام العقلي بحيث يحصل في الذهن المعنی المتصل باحدی العمليتين العقليتين كما حدث المعنی المتصل بالعملية الاخری و هذا الالزام العقلي اساس ما نسميه بالضرورة التي ندركها في الرابطة بين العلة و المعلول[1].

أقول: ان هيوم قد افترض وجود الزام‌عقلي باستدعاء احدي الفكرتين عند حصول الفكرة الاخری فيه و نقول له بناء علی مقياسهم من كون جميع المعارف لابد و ان‌تكون تجربيّةَ: من أين جاء هذا الالزام العقلي و ما قيمته اذا لم يكن حسياً و تجربياً‌ ؟ فعلی هيوم ان يقتصر علی تعاقب الظاهرتين فقط من دون ان‌يكون ايّ ارتباط بينهما او الزام او ضرورة لانه لايؤمن الا بمقياس‌ التجربة لاغير واذا كان هنالك شـىء اخر فانّما هو خيال ‌وسراب « حسب مقياسهم » كما و عبّر برابطةتداعي المعاني فان تداعي المعاني لاحقيقة من ورائه بل هو مجرد وهم و خيال و حيث ان هيوم قد اعطاه بُعْدَ الواقع لا الخيال فبذلك فقد اعترف بواقعية قانون العلية بين الاثر و المؤثر و من دون سابق تجربة‌ٍ او احساس بذلك و بذلك فقد اعترف بوجود معرفة اولية تنبع من صميم العقل عبّر عنها بالالزام العقلي و ان كان ما ادعاه من الالزام العقل باطلاً في نفسه و ذلك لان العلية التي ندركها ليس فيها مطلقاً ايّ اثر لالزام العقل باستدعاء احدی الفكرتين عند حصول الفكرة الاخری فيه فليست هي قضية نفسية بعيدة عن الواقع بل هي قضية واقعية فهنالك أمر واقع و العقل يدركه لا انه هو الملزم لاستدعاء شـىء شيئاً و بعبارة اخري ليست العلية بمعنی ان ادراك العلة يتعقبه ادراك المعلول كما في تداعي المعاني و يشهد لذلك ولبطلان كون العلية بمعنی تداعي المعاني ان التداعي كثيراً ما يحصل بين شئين دون الاعتقاد بعلية احدهما للاخر كما في تعاقب الليل و النهار مع انه لا يكون احدهما علة للاخر.

كما و ان العلة و المعلول قد يكونان مقترنين معاً تماماً لا ان احدهما عقب الاخر بل يكونان في آن واحد معاً و مع ذلك ندرك علية احدهما للاخر كحركة اليد و حركة القلم حال الكتابة فلو كانت العلية عبارة عن استتباع احدي العمليتين للاخری بالتداعي لما امكن في هذا المثال ان تحتل حركة اليد مركز العلة دون حركة القلم لان العقل قد ادرك الحركتين في وقت واحد فلماذا وضع احدهما موضع العلة و الاخري موضع المعلول؟

و حاصل المطاف ان الايمان بالمذهب المادى يؤدي حتماًَ الی اسقاط قانون العلية بين الاثر و المؤثر و اذا سقط هذا القانون فقد انهارت جميع العلوم الطبيعية باعتبار استنادها الی فان التجارب العلمية مالم تستند الی قانون العلية لايمكن اقتناص قانون عام و كلي منها و بذلك يظهر بطلان مذهب الماديين.

للبحث صلة

 

1- فلسفتنا ، محمد باقر الصدر ، ص 80، دارالتعارف للمطبوعات

دیدگاهتان را بنویسید