الاستاذ السيد جعفر سيدان
الاية الاولی: آية نفي السنخية
قال اللَّه سبحانه وتعالى:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[1]
انّ معنى هذه الآية واضح جدا ولا يوجد فيها أي عُموض أو تعقيد أو صعوبة. يقول الشيخ الطبرسي في تفسير جوامع الجامع في تفسيرها:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهو كقولهم (مثلك لا يبخل)» والمراد نفي البخل عن ذاته وهو من باب الكناية لانهم إذا نفوا الشيء عمّن يسد مسدّه فقد نفوه عنه، فالمعنى نفي المماثلة عن ذاته سبحانه فلا فرق بين أن يقال «ليس كاللَّه شيء» وأن يقال: «ليس كمثله شيء» الاّ فائدة الكناية وقيل كرّرت كلمة التشبيه للتأكيد.[2]
وعلی أساس هذا التفسير فقد اشتملت الآية المباركة علی الكناية فهي من زاوية ادبية تشتمل على الفصاحة ودلالتها في بيان المعنى ادل وأقوی، فإن كان مثل وشبيه اللَّه جلّ وعلا لا وجود له، فبالاولوية ذات اللَّه جلّ وعلا لا مثيل لها ولا شبيه.
وقال الشيخ محمد النهاوندي في تفسير نفحات الرحمن في ذيل هذه الآية المباركة:
ليس كمثله شيء وشبيه نظيره – علی تقدير وجود المثل والنظير – شيء وموجود من الموجودات.
ولم يقل «ليس له مثل»، «ليس للَّه مثل» وامثال ذلك، ففيه مبالغة في نفي المثل له تعالى وقيل انّ الكاف هنا زائدة وعلی أي تقدير لا شبهة ان مثل الشيء هو المشابه له في الذات والصفات – وان تشاركا في صدق بعض المفاهيم (كالموجود والعالم والقادر والسميع والبصير ونظائرها( الاّ انّ بين مناشيها في الواجب والممكن كمال المغايرة كما هو محقق في محله.[3]
فقد اوضح المرحوم النهاوندي ايضا من خلال كلامه هذا انه علی فرض وجود المثيل والنظير فانّ اللَّه جل وعلا لا نظير له في حين اننا نعلم انّ اللَّه جلّ وعلا لا مثيل له ولا نظير، فبالاولوية يثبت انّ اللَّه جلّ وعلا لا مثل له، كما وقد اوضح النهاوندي انه لا يوجد أي اشتراك بين الواجب والممكن – لا في الذات ولا في الصفات – وذلك لانه واجب وهو الذي تكون حقيقة وجوب وجوده ذاتية له بخلاف الممكن فانه لا تكون حقيقة وجوب الوجود ذاتية له ومن الواضع انّ هاتين الحقيقتين متناقضان ولا اشتراك بينهما.
ويستمر النهاوندي في بيانه ويقول انّ الواجب والممكن يشتركان في بعض المفاهيم[4] كما نقول: واجب الوجود ,وموجود ,وممكن الوجود,الإشتراك في المفهوم أو في اللفظ أو في المعنى موجود و… الاّ انّ منشأ انتزاع هذين المفهومين (يعني مصداقهما) يختلف من أحدهما للآخر بمعنى أنّهما يشتركان في مفهوم واحد الاّ انّ مصداقيهما متغاير (ومتخالف).
الروايات[5]:
1-يروي الشيخ الطوسي قدس سره خطبة لأميرالمؤمنين× في مصباحه وانّه قال فيها:
«(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إذ كان الشيء من مشيئته فكان لا يشبه مكوّنه».[6]
فعلی أساس هذا الحديث انّ انتفاء مثلية الأشياء للَّه جلّ وعلا من جهة انّ الأشياء مخلوقة للَّه ومكونة من اللَّه جلّ وعلا ومتحققة بمشيئته، إذن كلّ شيء يظهر للوجود بمشيئة اللَّه وإرادته وكلّ ما كان بمشيئته فهو لا يشبه موجِده.
وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول: انّ المكوِّن قائم بذاته والمكوَّن قائم بالغير.
ومن الواضح ان هذين لا يشبه أحدهما الآخر بل هما متغايران وذلك فانّ القائم بنفسه واجب الوجود ذاتا بخلاف القائم بالغير.
2- نقل الصدوق؛ في كتاب التوحيد عن الإمام علي× خطبة جاء فيها: «… حَدَّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها، أبانة لها من شبهه وأبانة له من شبهها».[7]
هذا الحديث يدل علی انّ هنالك بينونة بين اللَّه جلّ وعلا والأشياء وأنّهما لا يشتركان في طبيعة واحدة وسنخ واحد أبدا فلا الأشياء شبيهة للَّه جلّ وعلا ولا أنّ اللَّه جلّ وعلا شبيه للأشياء.
3- وروي عن الإمام الرضا × انّه قال: للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب نفي وتشبيه واثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز ومذهب التشبيه لا يجوز (لأنّ اللَّه تعالى لا يشبه شيء) والسبيل في الطريق الثالثة إثبات بلا تشبيه.[8]
ومعنى هذا الحديث واضح أيضا، فانّه يؤكد علی هذه النقطة وهي انّه لا شبيه ولا نظير ولا مثيل ولا شريك للَّه جلّ وعلا.
4- يقول الحسين بن سعيد انّه سئل أباجعفر الثاني الإمام الجواد × انّه هل يجوز إطلاق الشيء علی اللَّه جلّ وعلا؟
فأجاب الإمام : × نعم يخرجه من الحدين؛ حدّ التعطيل وحدّ التشبيه.[9]
يعني يمكن إطلاق الشيء على اللَّه جلّ وعلا الاّ انّه شيء لا يشبه أي شيء ولا يشبه شيء وأيضا فانّ اللَّه شيء الاّ انّه ليس كالأشياء لا يستطيع أن يفعل شيئا وعاجز عن فعل كلّ مايريد.
تفاسير باطلة:
قسم من أهل العرفان وعلى أساس ما يحملونه من تصور خاص يفسرون هذه الآية بشكل غير صحيح فحسب اعتقاد هؤلاء انّ اللَّه جلّ وعلا حقيقة تتطور وتتعيّن بأشكال مختلفة وله مراتب. وله مقام لا اسم ولا رسم له وهو يتنزل إلى مقام الأحديّة وفي نهاية المطاف يصل الكلام إلى انّ الحقيقة البسيطة مع لحاظ التعيّن هي كلّ شيء (مثل الشمع الذي يتشكل بأشكال مختلفة الاّ انّ حقيقة كلّ تلك الصور المصنوعة من الشمع واحدة( وبلا لحاظ التعين والتقيّد هو حقيقة واحدة وحيث أنّ التعيّن أمر اعتباري إذن كلّ شيء هو اللَّه جلّ وعلا.
فعلی أساس هذا المذهب يقولون حول آية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) انّ في هذه الآية تشبيه وتنزيه وانّهما لابدّ منهما معا والّا فانّ التنزيه لوحده مظهر للتهور ومخالفة للعقل.
فكونه تعالى ليس جسما ولا مركبا وليس له صورة ولا مكان ولا زمان خاص، فانّ ذلك لوحده غير كافٍ لأنّ ذلك عين التشبيه وعين التحديد والتقييد وذلك لأننا إذا نفينا اللَّه جلّ وعلا عن الأشياء فانّه سيكون محدودا ولا وجود له عند تلك الاشياء.
وعلی هذا فالتنزيه الذي يجر إلى التحديد ليس معنىً صحيحا والبيان الصحيح هو أن نقول بالتنزيه والتشبيه معا.
الجواب: انّ هذا الكلام يبتني على القول بالسنخية بين الخالق والمخلوق وعندئذٍ فنفي أي شيء عنه تعالى لازمه تحديد الذات الإلهية المقدسة. الاّ انّ هذا اللازم الباطل لا يرد على القول بالبينونة بين الخالق والمخلوق (كما اوضحنا ذلك في محله) والأدلة النقلية حول البينونة كثيرة وهي تدل بوضوح علی انّ الذات الإلهية المقدسة مباينة للمخلوقات ولا اشتراك بينهما في الحقيقة ابدا.
جاء في التفسير الذي طبع باسم ابن عربي (ويقال انّه من آثار ملاعبدالرزاق الكاشاني): «(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( اي كلّ الأشياء فانية فيه هالكة، فلا شيء يماثله في الشيئية والوجود».[10]
ويقول ابن عربي في فصوص الحكم:
اعلم أيدّك اللَّه بروح منه انّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الالهي عين التحديد والتقييد والمنزه اما جاهل واما صاحب سوء ادب.
ولكن إذ اطلقاه وقالا به فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نَزَّهَ ووقف عند التنزيه ولم يَر غير ذلك فقد اساء الأدب واكذب الحق والرسل صلوات اللَّه عليهم وهو لا يشعر ويتخيل انّه في الحاصل وهو في الفائت وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض.[11]
وفي موضع آخر يقول:
قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فَنَزَّه (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فشبه. قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فشبّه و ثنّى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فنزّه وافرد.[12]
فيقول ابن عربي في كلامه هذا: اننا لو فسرنا الكاف في قوله تعالى (كَمِثْلِهِ) بأنّها زائدة فسوف يكون مفاد الجملة هو تنزيه اللَّه) من حيث انّه لا مثل له ولا نظير( ومعنى الجملة التي بعدها هو التشبيه (وذلك لأنّ هاتين الصفتين تطلقان على غير اللَّه جلّ وعلا).
ولو لم نفسر الكاف بأنّها زائدة ففي هذه الصورة سوف يكون مفاد الجملة هو التشبيه والتثنية (وذلك لأنّ نفي المثلية عن اللَّه قد فرض فيه وجود المثل) ومفاد القسم الثاني هو التنزيه والافراد (وذلك لأنّ السميع والبصير منحصران في اللَّه وهو منزه عن فقدانهما).
وعلى هذا فالآية المذكورة لها تفسيران أحدهما التشبيه والآخر التنزيه.
ويعقب بعد ذلك ابن عربي بقوله انّه لو كان النبيّ نوح كنبي الإسلام يدعو إلى التشبيه والتنزيه معا لاستجاب له قومه الاّ انّ نوح لم يبلغ الاّ التنزيه ولهذا اعرض عنه قومه.
والذي يجمع بين التنزيه والتشبيه هو القرآن لا الفرقان فلم يكن نوح كنبيّ الإسلام يدعو إلى هذا الجامع (بين التشبيه والتنزيه) ولم يصل إلى جوامع الكلم ولهذا فقد بقي قوم نوح على التشبيه ولم يقبلوا التنزيه وكانوا يجعلون اصابعهم في آذانهم ويغطون رؤوسهم حتّی لا يسمعوا كلام نوح.
ويقول ابن عربي بعد ذلك :
فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه فانّه شبّه ونزَّه في آية واحدة بل في نصف آية.[13]
من جميع هذه الكلمات يتضح لنا انّه بعد الإعتماد علی هذه المباني والأفكار في مسائل التوحيد وصل الحال (بهؤلاء( أن يفسروا هذه الآية التي هي من اصرح الآيات في نفي التشبيه بانّها في مقام بيان التشبيه في حين انّ الروايات الدالة علی نفي التشبيه مضافا للأدلة العقلية قد استشهدت بهذه الآية علی نفي التشبيه.
نعم، بناءً علی هذه المباني والأفكار فقد تسمع تارةً من بعض العرفاء والصوفية كلاما يوجب التعجب والحيرة كما في قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[14]) حيث فسروها هكذا:كفروا اولئك لأنّهم حصروا الاله في المسيح والحال انّ اللَّه كلّ الأشياء والكل هو اللَّه (فقد فسروا الآية علی العكس من مدلولها).
للبحث صلة
[1]– الشوری/ 11
[2] – تفسير جوامع الجامع، 279/3
[3] -نفحات الرحمن، 3/114، الطبع الحجري.
[4] – الإشتراك اللفظي والمعنوي كلّ منها يحتاج إلى بحث خاص.
[5] -هذه الروايات موجودة في تفسير كنزالدقائق، 484 – 483/11فقد جاءت في ذيل الآية المباركة.
[6] – مصباح المتهجد/ 697تفسير الصافي، 368/4
[7] -توحيد الصدوق/ 42ح 3
[8] -توحيد الصدوق/ 107ح 8
[9] -توحيد الصدوق/ 107ح 7
[10] – تفسير القرآن الكريم (ابن عربي( 428/2
[11] -شرح فصوص الحكم/ 500 – 498
[12] -شرح فصوص الحكم/ 512
[13] – شرح فصوص الحكم/ 516
[14] -المائدة/ 17و72 .