من ذکريات شهر رمضان المبارک
البيعة للامام علي بن موسی الرضا × بولاية العهد
ان الحديث عن البيعة للامام علي الرضا × بولاية العهد حديث طويل له مقامه و منزلته . فان الناس في کل زمان و مکان لا يعدلون واحدا من ابناء علي × و فاطمة عليها السلام و لکن الظلم الغاشم و الحکم الظالم و ما غرسته احقاد بدر في الصدور وزرعه فتح مکة في النفوس و ما تألبت به في اول الامر بنو امية علی آل البيت عليهم السلام و ما جری لهم من مشايعة الموتورين بسيف أمير المؤمنين علي ×. و الداخلون في الاسلام رياءً و المسلمون نفاقا المتربصون بالنبي و آله الدوائر و المترصدون لهم ليلحقوا بهم الضرر نصبا لهم و عداوة الله و لرسوله . و هو الذي مال بالامر عن مقامه و حادبه عن موثله و صار الناس کما قال ابو سفيان يتلقفونها تلقف الکرة، فکانت خلافة رسول الله تتنازعها الايدي اللوثة و الاکف الخبيثة النجسة عندما اتخذها الامويون ملکا عضوضا الی ان استقر في يد المأمون عبدالله بن هارون. و کان المأمون عالما ذکيا يعرف مصادر الحق و موارده و مستقر الامر و قواعده. و قد التاثت عليه أمور الدولة و صعب جماحها و نزغت الفتن فيها. و قد جري بين المأمون و الامام حديث طويل و کلام جليل کان المأمون فيه يبدي اشد الرغبة لعزل نفسه و عقد البيعة بالخلافة له و الامام لعلم هو ادري به يمنتنع عليه حتی قال له المأمون اما اذا کنت لا تريد ان نتولی الخلافة و تبقی متشدداً في اصرارک علی الامتناع فکن علی الاقل ولي عهدي و اذا بقيت علی اصرارک اجبرتک.
عند ئذ قال الامام: الحکم لله و هو حسبي و نعم الوکيل. و قبل ولاية العهد مشترطا بأنه لا يعزل و لا يولي شيئا من شؤون الدولة فاذعن المأمون لشروطه و خرج ذو الرياستين قائلا و اعجباه امير المؤمنين يفوض أمر الخلافة للامام الرضا و يأبی قبولها. فيا لها من خلافة ما اضيعها و ما احقرها في عين رجال الله الصالحين.
و في اليوم الاول من شهر رمضان سنة أحدی و ماتين هجرية عقد الاحتفال العظيم لعقد البيعة بولاية العهد للامام الرضا× من بعد المأمون و قد دعا المأمون لها خواصه و وزاءه و ارکان دولته و قواده و حجابه ووجوه الناس و اعيانهم و خلع الشعار الاسود الذي هو شعار العباسيين و ارتدی الشعار الاخضر الذي هو شعار العلويين . واوعز الی عماله في الولايات الاقتداء به فلما انتظم عقد الجمع اشار الی الفضل بن سهل ان يعلن للجماهير بأن ولي عهد أمير المؤمنين من بعده هو الامام الهمام ابن الامام أبو الائمة علي بن موسی الرضا × فأبتهج الناس و ظهرت امارات السرور علی الوجوه.
و بعد هنيهة جاء الامام سلام الله عليه لابسا الخضرة و علی رأسه عمامة و هو منقلد بسيف في هالة من الاکبار و الجلال فکبرت الجماهير استبشارا بمرآه و هللت الوجوه اعظاما لهيبته و انطلقت الالسن شکرا لله علی نعمته . فتقدم سلام الله عليه و جلس بين وسادتين عظيمتين وضعتا له. و أمر المأمون ابنه العباس بمبايعته بولاية العهد اول الناس فرفع الامام يده ووضعها فوق يد العباس فقال له المأمون لماذا لا تبسط يدک فقال له الامام الرضا × ان رسول الله | کان يبايع و يده فوق ايديهم فقال افعل ما تری ثم تقدم الهاشميون و الوزراء و القواد و الحجاب فالوجوه فالاعيان فبايعوه ثم وزعت الدارهم و الدنانير و الثياب علی الناس بقدر مراتبهم.
و اول ما بدأ بالعلويين ثم العباسين. ثم أخذ الخطباء و الشعراء في تعديد مآثر الامام حيث وجدوا مجالا للقول وسعة للمدح و بعدها قال المأمون تکلم يا ابا الحسن : فحمد الله و اثنی عليه و ذکر النبي فصلي عليه. و قال ايها الناس ان لنا عليکم حقا برسول الله | و لکم علينا حقا به فاذا انتم اديتم لنا ذلک وجب علينا الحق لکم و السلام.
ثم دخل الشاعر المشهور أبو نؤاس فقال له المأمون لم لم تفل في أبي الحسن الرضا × شيئا و انت شاعر عصرک و قريع دهرک، فانشد أبو نؤاس قائلا:
قيل لي انت اشعر الناس طرا | في فنون من الکلام النبيه | |
لک من جوهر القريض بيان | يثمر الدر في يدي مجتنيه | |
فلماذا ترکت مدح ابن موسی | و الخصال التي تجمعن فيه | |
قلت لا استطيع مدح امام | کان جبريل خادما لابيه |
وفاة ابي طالب رضوان الله عليه
ابتلي أبوطالب رضوان الله عليه باعداء ولده علی ×. فکان ابوطالب في عهد الجاهلية و استفحال المشرکين الدرع الحصينة للنبي صلي الله عليه و آله يدرأ عنه عادية قريش و يحوطه منهم و يذود عنه الاذی و يتعب نفسه في سبيله ليوفر عليه الراحة و الاطمئنان و يجهر بموالاته له و بتعضيد دعوته، فکان يلقي من قريش کل شدة ترميه بالايمان بابن اخيه و التصديق بنبوته . و تتحامي جانبه لعزه و مناعته فلم يسلم من طعون قريش عليه ووقوعهم به لولا ما کانوا يداجون و يمارون.
و لما مات ابوا طالب آنست قريش من نفسها القوة علی مجابهة النبي | و کسر شوکته و تحطيم دعوته لانها کانت تعلم ان دون النبي خرط القتاد و أبوطالب في الوجود. و لکن امير المؤمنين علي بن ابي طالب × کان في زمن ابيه عونا لوالده علی صغر سنه وورت الکلاءة من ابيه بعد وفاته فکان بحيث تکره قريش من التفاني في نصرة النبي | حتی اذا خفقت راية الاسلام و ابلی فيها أبو الحسن × البلاء الحسن و دوخ صناديد قريش بسيفه لم ير أعداء علی ما يغضون به من علو مکانه و صفاء جوه الّا ان ينبزوا أباه بالشرک و انه لم يمت علی الايمان عداوة لله و لرسوله و لامير المؤمنين لئلا يجمعوا له فضيلة اسلام ابيه فصاح صائحهم ان أبا طالب مات مشرکا.
يا لله العجب من منطق قريش المفلوج فهم بالامس کانوا يقولون عنه انه صبا الی دين ابن أخيه لما کان الاسلام في نظرهم سبة . ثم لما اسلم من اسلم و استسلم من استسلم منهم رموه بالشرک و انه مات کافرا.
ان الحديث عن ابي طالب له آفاق شاسعة و آماد بعيدة و ليس استيعاب ذلک بالامر اليسير في صفحات من مجلة ينبغي ان تتشعب مواضيعها و تکثر مباحثها و لذلک فاننا نجتزي بالشئ اليسير عن هذا البطل العظيم. تارکين التوسع الی من اراد في الکتب المؤلفة في هذا الباب.
نقل هشام بن السائب عن ابيه قال : لما حضرت ابا طالب الوفاة جمع اليه وجوه قومه و اوصاهم بقوله : يا معشر قريش انتم صفوة الله في خلقه، و اني اوصيکم بمحمد خيرا ، فانه الامين في قريش ، و الصديق في العرب، و هو الجامع لکل ما اوصيکم به و قد جاء بأمر قبله الجنان، و انکره اللسان، مخافة الشنآن … و ايم الله کأني انظر الی صعاليک العرب و اهل الوبر و الاطراف المستضعفين بين الناس ، قد أجابوا دعوته ، و صدقوا کلمته و عظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش و صناديدها اذنابا ، و دورهم خرابا و ضعفاؤها اربابا و اذا اعظمهم عليه احوجهم اليه ، و أبعدهم عنه احظاهم عنده ، قد محضته العرب و دادها، واصنعت له فؤادها، و اعطته قيادها. يامعشر قريش کونوا له ولاة ، ولحزبه حماة و الله لا يسلک أحد سبيله الارشد، و لا أخذ برأيه الاسعد، و لو کان نفسي مدة، و لاجلي تأخير، لکففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي.
و في حديث مقاتل ان ابا طالب جمع اليه بني هاشم و احلافهم و اوصاهم بنصرة الرسول | قائلا انه کان يقول اخبر نا بذلک آباؤنا و علماؤنا و هو الصادق الامين فأجيبوا دعوته ، و اجتمعوا علی نصرته ، و ارموا عدوه من وراء حوزته فانه الشرف الباقي لکم علی الدهر.
و روي بأسانيد کثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب و بعضها عن ابي بکر بن ابي قحافة ان ابا طالب ما مات حتی قال لا آله الا الله محمد رسول الله|، و الخبر مشهور ان ابا طالب عند الموت قال کلاما خفيا فاصغی اليه أخوه العباس ثم رفع رأسه الی رسول الله | فقال يا ابن أخي و الله لقد قالها عمک ولکنه ضعف عن ان يبلغک صوته.
و قد أجمع أهل بيت النبي | و سلم، و ناهيک بهم فهم المبرؤون من الکذب و الاختلاق المعصومون من الخطاء و الافتراء الذين هم حجج الله علی خلقه و الامناء علی دينه الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.
و من هذا شأنهم فروايتهم اصدق الرواية و قولهم أحق قول فقد أجمعوا و اجماعهم حجة علی ايمان ابي طالب بما لا يتسع المجال لذکر احاديثهم اما ما روي عن ابي طالب من الاشعار الدالة علی ايمانه فتستغرق حد الاکنار فمنها قوله يخاطب أخاه الحمزة و کان يکنی ابا يعلی:
فصبرا ابا يعلی علی دين أحمد | و کن مظهراً للدين و فقت صابرا | |
و حط من اتی بالحق من عند ربه | بصدق و عزم لا تکن حمز کافرا | |
فقد سرني اذا قلت انک مؤمن | فکن لرسول الله في الله ناصرا | |
و باد قريشابالذي قد اتيته | جهارا و قل ما کان احمد ساحرا |
و من ذلک قوله :
لقد أکرم الله النبي محمدا | فأکرم خلق الله في الناس أحمد | |
و شق له من اسمه ليجله | فذو العرش محمود و هذا محمد |
و قوله من ابياته الدالة علی ايمانه:
و الله لن يصلوا اليک بزعمهم | حتی اوسد في التراب دفينا | |
فانفذ لا مرک ما عليک مخافة | و ابشر و قر بذلک منک عيونا | |
و دعوتني و زعم انک ناصحي | و لقد صدقت و کنت قبل أمينا | |
و عرضت دينا قد علمت بأنه | من خير اديان البرية دينا |
و من شعر ابي طالب رضوان الله عليه المتضمن للاقرار بنبوة محمد | و سلم.
يرجون منا خطة دون نيلها | ضراب و طعن بالوشيج المقوم | |
يرجون منا ان نسخي بقتل محمد | و لم تخضب سمر العواليه من الدم | |
کذبتم و بيت الله حتی نفرقوا | جماجم تلقي بالحطيم و زمزم | |
و تقطع ارحام و تنسی حليلة | حليلا و يغشي محرم بعد محرم | |
و ينهض قوم بالحديد اليهکمو | يذبون عن احسابهم کل مجرم | |
هم الاسد اسد الزأرتين اذا غدت | علی حنق لم تخش اعلام معلم | |
فيالبني فهر افيقوا و لم تقسم | نوائح قتلي تدعي بالتسدم | |
علی ما مضی من مقتکم و عقوقکم | و غشيانکم في أمرنا کل مأثم | |
و ظلم نبي جاء يدعو الی الهدی | وأمرأتي من عند ذي العرش قيم | |
فلا تحسبونا مسلميه و مثله | اذا کان في قوم فليس بمسلم | |
فهذي معاذير و تقدمة لکم | لکيلا تکون الحرب قبل التقدم |
***
و کانت وفاته رضوان الله عليه في اليوم السابع من شهر رمضان في السنة العاشرة من المبعث النبوي، و قبل الهجرة بثلاث سنوات، و دفن سلام الله عليه بالحجون.
وفاة ام المؤمنين خديجة الکبری÷
ان خديجة بنت خويلد اول زوجات النبي | . کانت سرية من سراة قريش و عظيمة من عظمائهم و ثرية من اثريائهم و شريفة من اشرافهم تحتل الدارة المرموقة فيهم و المنزلة الرفيعة بينهم و المقام السامي عندهم. و قد شاء الله ان تکون خديجة السيدة في قريش سيدة النساء جميعا باقترانها بالنبي |. و شاء الله ان تکون خديجة من ابر ازواجه و اصفاهن و اشفقهن فقد واست رسول الله علی الله عليه و آله بکل ما تملک من مال و اصطبرت علی الاذی معه و آمنت به فهي اول من آمن به من نساء العالمين. و ضلت معه مجاهدة في سبيل الله تشد عزمه و تقوی ارادته و تذکي حرکته و تخفف عنه الشدائد و تهون عليه المصائب لم تدخر و سعا الا بذلته و لا سعيا الا سعته ، القت اليه مفاتيحها و سلمته کنوزها . و قالت له انت و ليي فاصنع و أنت نبيي فاعمل، فلک الامر و علينا الطاعة. و هي أم بضعته و أصل دوحته و مصباح عترته فاطمة الزهراء ابنته عليها السلام. بقي رسول الله بعد وفاة خديجة يشعر بالکابوس الثقيل، و الشبح المخيف، و الحزن المرير ، فما فتئ | يذکرها في کل مقام و يتمناها في کل شدة و يمتدحها في کل معرض و يثني عليها في کل مشهد . و کان | من جراء ذلک عرضة لتعاب بعض زوجاته في شأنها . فطالما عاتبته عائشة ناعية عليه شدة وفائه لها بقولها له هل کانت الا عجوزا عوضک الله خيرا منها. فکان يقول لها لا و الله ما ابدلني خيرا منها. آمنت بي اذ کفر الناس ، و صدقتني اذ کذبني الناس ، و واستني بمالها اذ حرمني الناس. و رزقني الله منها الولد دون غير ها من النساء اني لا حب حبيبها – و الوفاء من الايمان-.
کانت خديجة بقوة آرائها و نضج عقلها و صدق مودتها و صحة ايمانها وزيرة صدق للرسول | و سلم فکانت وفاتها صدمة عنيفة في حياة النبي | ظلت تتمثل امام عينيه دائما و ابدا اذ أنه ما کاد ان يواري عمه ابا طالب× في حفرته حتی واری زوجه النصيرة له بعده فأصبح وحيدا من الناصر و المعين لو لا ان تدارکه الله بلطفه و ايده بنصره.
و قد روي ان وفاتها کانت لعشر خلون من شهر رمضان بعد عشر سنين من مبعثه | و قبل الهجرة بثلاث سنوات. و سمی رسول الله | ذلک العام- عام الحزن لفقده عمه ابا طالب و زوجه خديجة ام المؤمنين و المؤمنات عليها السلام.
مولد الامام الثاني ابي محمد الحسن ×
أبو محمد الحسن بن علي بن ابي طالب هو الامام الثاني من الائمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين. أبوه علي بن ابي طالب صلوات الله وسلامه عليه. و امه فاطمة الزهراء بنت رسول الله سيدة نساء العالمين. قال و اصل بن عطاء: کان الامام الحسن عليه سيماء الانبياء و بهاء الملوک . وروی أبو نعيم في حيلة الاولياء عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي ان الامام الحسن قال: اني لا ستحيي من ربي ان القاه و لم أمش الی بيته، فمشی عشرين مرة علی رجليه من المدينة الی مکة و النجائب لتقاد معه. و قد قاسم الله امواله مرتين. و کان يعطي عطاء من لايخاف الفقر. وفي کتاب الصفوة لا بن الجوزي قال کان الحسن أشبه الناس بجده |. وروی البخاري عن عقبة بن الحارث قال صلی أبو بکر العصر ثم خرج يمشي هو و علي × فرأی الحسن يلعب مع الصبيان فحمله ابو بکر علی عاتقه و قال : بابي شبيها بالنبي ليس شبيها بعلي و علي يبتسم، و روی البخاري و مسلم عن البراء بن عازب قال رأيت النبي | و علی عاتقه الحسن بن علي عليهما السلام و هو يقول اللهم اني احبه فاحبه. وروی الترمذي عن ابن عباس قال: کان رسول الله حاملا الحسن بن علي عليهما السلام علی کتفه، فقال رجل : نعم المرکب رکبت ياغلام. فقال النبي | : و نعم الراکب هو. وروی الترمذي عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول | الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة. الی غير ذلک من الاحاديث الدلة علی عظيم منزلته عند الله و رسوله. و علی جليل مقامة في قلوب المسلمين.
و الحسن صلوات الله عليه اول مولود جاءت به بضعة النبي سيدة النساء فاطمة الزهراء × فترعرع في حضن الزهراء و ربي في حجر الرسول الاعظم | و تغذی من در النبوة و تشرب بروح الوحي و نشد في کنف الرسالة. و نهل من ينابيع العرفان و التقی و الايمان. فکان انموذجا للفضائل و مثلا للجود و الکرم و الشجاعة و الاباء و العلم و المعرفة و الصبر و الورع انار غياهب الانسانية المظلمة بسناه. و اوضح نهج الهداية بهداه و علم الناس المکارم و افهمهم الصمود امام الحوادث و النوازل.
و للحسن سلام الله عليه تاريخ حافل من يوم ولد الی ان استشهد مسموما بالسم الذي دسه اليه معاوية بن هند و ليس من همنا الان التعرض له لان بحثنا هذا يقتصر علی تاريخ ميلاده عليه اسلام و سوف نتعرض لشئ من تاريخه في يوم ذکری وفاته ان شاء الله.
و لد سلام الله عليه في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان السنة الثالثة هجرية الواقعة لسنة 624 ميلادية .. و قد لاقی سلام الله عليه من ابناء الطلقاء و عبيدهم ما لا قبل لاحد بتحمله بعد ان غدر به المارقون و خرج عليه المنافقون و عبدة الاوثان من ارباب الاطماع و الهمج الرعاع. بيد انه رأی ان يرأب صدع الاسلام بما يحتمله من الاذی و يرفو خرقه بما يصطبر عليه من الحرمان فتجرع الغصص و شرب بعد ذلک السم الذعاف فمضی الی جوار ربه طاهر الذيل صافي انقيبة شهيدا هضيماً حقه . مغتصبا امره.. علی انه لم يأل في الله جهادا حتی اتاه اليقين. فکان صلوات الله و سلام عليه و اعظم امتحان للمؤمنين و اعظم حجة علی اعدائه القاسطين. اذ لم يحفظو فيه عهد رسول الله. و لم يرعوا ذمته . و لم يحققو له فيه و في اخيه امنيته فجاروا و ظلموا و عدوا و اعتدوا ضاربين بالاسلام ظهريا و عن الدين صفحا قد غرتهم الدنيا و غوتهم شياطينها فاصبحوا لا يرون الا اقذرها و لا يحبون الا اوضارها قد اعمی الله بصائرهم، و اغشی ابصارهم فهم في غيهم سادرون.
غزوة بدر الکبری
غزاة بدر و ما ادراک ما غزاة بدر؟ اذ هي فاتحة الاسلام کما ان ام الکتاب هي فاتحة القرآن، ففي غزاة بدر تحطمت رؤوس المشرکين و اجتثت الشجرة الملعونة، و انقطع و تين الکفر، و شرق الالحاد بدمه، و اشرق نور الله في الارض، و غاض المشرکون في قليب بدر، و امتد رواق الاسلام و لمعت بوارق الايمان، و ظهرت آيات الله، و خفقت راياته، و سری ضوؤه في فجاج الجزيرة، و مفاوز الصحراء، و دياميم البادية، و استعلی أمر الله في جبال فاران..
بدأت واقعة بدر الکبری في يوم الجمعة سابع عشرة من شهر رمضان لسنتين مضتا علی الهجرة …و کان من حديثها: ان اباسفيان صخر بن حرب عاد من الشام في عير لقريش عظيمة و فيها اموال کثيرة تقدر قيمتها بخمسين الف دينار يحرسها ثلاثون أو اربعون أو سبعون رجلا فيهم عمرو بن العاص، و مخرمة بن نوفل ، فلما سمع المهاجرون بها اتوا الی النبي | و قلوبهم تغلي کالمراجل ليثأروا من قريش التي عذبتهم ، و ارادت ان تفتنهم عن دينهم، و اخرجتهم من ديارهم ، و سلبتهم اموالهم.
فندب النبي | المسلمين اليهم و قال: اخرجوا فلعل الله ان ينفلکموها. فنفر بعضهم ، و تقاعد بعضهم لانهم لم يظنوا ان النبي | يلقي حربا. و بلغ ابا سفيان خبر النبي | فأخذ حذره، و استأجر ضمضم بن عمر الغفاري فبعثه يستنفر قريشا لتحمي عيرها. و کانت عاتکة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم بثلاث لياليه رؤيا افزعتها فقصتها علی اخيها العباس و استکتمته خبرها.. قالت رأيت راکبا علی بعير له واقفا بالابطح، ثم صرخ بأعلی صوته ان انفروا يا ال غدر لمصارعکم في ثلاث قال فأری الناس قد اجتمعو ا اليه ، ثم دخل المسجد فمثل بعيره علی الکعبة ، ثم صرخ مثلها ، ثم مثل بعيره علی رأس أبي قبيس فصرخ مثلها. ثم أخذ صخرة عظيمة و ارسلها فلما کانت باسفل الوادي ارفضت فما بقي بيت في مکة الا دخله فلقة منها. فخرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة و کان صديقا له فقص عليه رؤياها . فذکرها الوليد لابيه ففشا الخبر، فلقي أبو جهل العباس فقال له متی حدثت فيکم هذه النبية؟ ثم قال : ما رضيتم ان تتنبأ رجالکم حتی تتنبأ نساؤکم ، فسنتربص بکم هذه الثلاث فان يکن حقا والّا کتبنا عليکم انکم اکذب اهل بيت في العرب. و لم يکن من العباس الا ان جحد الرؤيا و انکرها.
و لما امسی اتاه نساء بني عبد المطلب و قلن له: اقررتم لهذا الفاسق الخبيث ان يقع في رجالکم ، و قد تناول نساءکم ، و لم تنکر عليه ذلک. قال: فان عاد کفيتکموه. قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتکة و انا مغضب احب ان ادرکه، فرأيته في المسجد فمشيت نحوه اتعرض له ليعود فأوقع به، فخرج نحو باب المسجد يشتد، و اذا هو قد سمع صوت ضمضم و هو يصرخ ببطن الوادي علی بعير قد جدعه ، و حول رحله و شق قميصه و هو يقول: يا معشر قريش اللطيمة ، اللطيمة اموالکم مع ابي سفيان قد عرض لها محمد و اصحابه لا ادري ان تدرکوها . الغوث ، الغوث فشغله عني و شغلني عنه.. قال: فتجهز الناس سراعا و لم يتخلف من اشرافهم احد الا ابو لهب.
و بعث النبي | طلحة بن عبد الله، و سعيد بن زيد يترصدان العير و لما علما بمرورها اسرعا بالرجوع. و کان قد خرج النبي | قبل رجوعهما لثمان خلون من شهر رمضان و خرج معه ثلثمائة من المهاجرين و الانصار و لم يکن بينهم من الفراسان الا المقداد بن الاسود الکندي و فارس آخر قيل هو الزبير بن العوام، و معهم من الابل سبعون بعيرا يتعاقبون عليها. و کان النبي | و علی بن ابي طالب ، و مرثد بن ابي مرثد و قيل بل زيد بن حارثة يتعاقبون علی بعير واحد.
و انطلقوا مسرعين لئلا يفلت منهم أبو سفيان. و ذکر بن الاثير ان لواء النبي کان مع مصعب بن عمير بن عبد الدار. و رايته مع علی بن ابي طالب × . و علی الساقة قيس بن أبي صعصعة الانصاري . و في ذخائر العقبی عن ابن عباس ان علياً أخذ راية النبي | يوم بدر ، فقال الحکم : يوم بدر المشاهد کلها. و في ذخائر العقبی قال کسرت يد علی يوم احد فسقط اللواءمن يده فقال رسول الله ضعوه في يده اليسری فانه صاحب لوائي في الدنيا و الاخرة.
و کان ابو سفيان قد مال بالعير الی طريق الساحل اشفاقا عليها من المسلمين و جائت قريش مسرعة و کانوا تسعمائة و خمسين رجلا و قيل کانوا الف رجل و معهم مائة فرس و سبعمائة بعير.
و سار النبي | باصحابه فلما کان قريبا من الصفراء بعث بسيس بن عمرو وعدي بن ابي الرغباء يتجسسان الاخبار عن ابي سفيان ثم ارتحل تارکا الصفراء يسارا. و عاد اليه بسيس يخبره ان العير قد قاربت بدرا. و لم يکن عند رسول الله و المسلمين علم بمسير قريش لمنع عيرهم.
و لما نجا أبو سفيان بالعير ارسل الی قريش و هم بالجحفة ان ارجعوا فقد نجی الله عيرکم و اموالکم فقالت قريش لابي جهل: ان العير قد نجت فأرجع الناس الی مکة . فقال لا يکون ذلک ابدا حتی ننحر الجزر، و نشرب الخمور و نقيم القينات و المعارف ببدر فيتسامع العرب بخروجنا ، و ان محمدا لم يصب العير.
و کان النبي | قد بعث علياً × و الزبير و سعدا يلتمسون له الخبر ببدر فاصابوا رواية لقريش فيهم اسلم غلام الحجاج و أبو يسار غلام بني العاص فأتوا بهما النبي | . فقال لهما: اخبراني اين قريش ؟ قالا : هم وراء هذا الکثيب الذي تری بالعدوة القصوی. فقال کم القوم؟ قالا : کثير. قال: کم عدتهم؟ قالا لا ندري. قال: کم ينحرون؟ قالا: يوما تسعا و يوما عشرا.. قال: القوم بين التسعمائة الی الالف. و فيهم عتبة، و شيبة، ابنا ربيعة؛ و الوليد و ابو البختري بن هشام، و حکيم بن حزام ، و الحارث بن عامر و طعيمة بن عدي، و النضر بن الحارث، و زمعة بن الاسود. و أبوجهل، و امية بن خلف . و نبيه و منبه ابنا الحجاج و سهيل بن عمرو؛ و عمرو بن عبدود.
و حيث ان أبا سفيان قد نجا بالعير فقد تغير الامر فاستشار النبي | اصحابه. و قال هذه مکة قد القت اليکم اشرافها و افلاذ کبدها. فأدلی المهاجرون برأيهم و کان بعضهم و د ان يعودوا الی المدينة و لا يصطدمون بقريش و فيهم نزلت هذه الاية: ( و اذ يعدکم الله ان يحق الحق بکلماته و يقطع دابر الکافرين) ثم قام منهم المقداد بن الاسود فقال: امض لما امرک الله فنحن معک، و الله لا نقول کما قالت بنو اسرائيل لموسی أذهب انت و ربک فقاتلا انا معکما مقاتلون. فو الذي بعثک بالحق لو سرت بنا الی برک الغماء (يعني مدينة الحبشة) لجالدنا معک من دونه حتی تبلغه. فدعاله بخير. ثم قال اشيروا علی أيها الناس، فقال له سعد بن معاذ: لکانک تريدنا يا رسول الله ؟ قال :أجل . قال: قد آمنا بک، و صدقناک ، و اعطيناک عهودنا، فامض لما أمرت فو الذي بعثک بالحق ان استعرضت بنا هذا البحر لنخوضنه معک ، و ما نکره ان تکون تلقی العدو بنا غدا، انا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريک منا ما تقربه عينک. فسر النبي و دعا لهم بالخبر ثم قال | سيروا و ابشروا فان الله وعدني احدی الطائفتين. و الله لکأني انظر مصارع القوم. و عين مصارع القوم فما تعدوها. و سار النبي باصحابه حتی اشرف علی بدر فنزل قريبا منها. و قد نزلت قريش بالعدوة القصوی من الوادي فبعث الله السماء بالمطر و کان الوادي دهاسا( ليس برمل و لا تراب) فأصاب من المطر رسول الله و اصحابه ما لبد لهم الارض و لم يمنعهم المسير و أصاب قريشا منه ما لم يقدروا علی ان يرحلوا معه فبادرهم النبي الی الماء حتی اذا جاء أدنی ماء من بدر نزله و اشار الحباب بن المنذر بن الجموح علی النبي بأن يأتي أدنی ماء من القوم فينزله ثم يغور ما وراء القلب ثم تبني له حوضا و تملاؤه ماء فتشرب و لا يشربون ثم نقاتلهم. ففعل رسول الله ذلک فلما نزل قال سعد بن معاذ: يا رسول الله نبني لک عريشا فتکون فيه و نترک عندک وکائبک ثم نلقی عدونا فان اعزنا الله و اظهر نا عليهم کان ذلک ما احبنا، و ان کانت الاخری لحقت بمن وراءنا فقد تخلف قوم ما نحن بأشد حبا لک منهم ،و لو ظنوا انک تلقی حربا ما تخلفوا فاثنی عليه خيرا ثم بني لرسول الله العريش. و اقبلت قريش . فقال النبي : اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها و فخرها تحادک و تکذب رسولک، اللهم فنصرک الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداة.
و تقدم الاسود بن عبدالاسد المخزومي و هو من اشد الناس عداوة لله و لرسوله و تکلم مع قومه فقال اعاهدکم لا شربن من حوض اصحاب محمد و لاهدمنه أو لا موتن دونه، فخرج اليه حمزة عم النبي فضربه فأظن (قطع) قدمه بنصف ساقه دون الحوض و لکنه تجلد و حبا الی الحوض و شرب منه ورکله برجله الصحيحة بارا بيمينه فعاجله حمزة بضربة ثانية و قتله.
و تداولت قريش فيما بينها الرأي فمنهم من کان يری الرجوع بالناس و منهم من يری الحرب و کان من أشد الناس حماسة لحرب رسول الله أبو جهل فهو الذي کان يسعر فيهم نيران الحفيظة و يؤلبهم و يستنهض هممهم حتی اوبقهم فيما کره أکثرهم .. ارادة أرادها الله لاعلاء کلمة الاسلام و اعطاء نصره لخيار المؤمنين.
و نزل عتبة بن ربيعة و اخوه شيبة و ابنه الوليد فبرز اليهم ثلاثة نفر من الانصار و انتسبوا فقالوا: ارجعوا انما نريد الاکفاء من قريش . فنظر رسول الله عليه و آله الی عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب و کان له من العمر سبعون سنة و قال له: قم يابن العم، و نظر الی عمه حمزة بن عبد المطلب و قال له: قم يا عم ، و نظر الی علي × و قال له: قم يا علي (و کان علي أصغر القوم سنا) فاطلبوا بحقکم.
فبرز حمزة لعتبة. و برز عبيدة لشبية. و برز علي للوليد. فقتل حمزة عتبة، و قتل علي الوليد، و اختلف عبيدة و شيبة فيما بينهما بضربتين فاثخن کل منهما صاحبه فکر علي و حمزة علی شيبة فقتلاه، و احتملا عبيدة و قد قطعت رجله فلما رآه النبي استعبر و قال: يا رسول الله الست شهيدا قال بلی انت اول شهيد من أهل بيتي. قال:لو رآني عمي أبوطالب لعلم اننا أحق بقوله:
و نسلمه حتی نصرع حوله و نذهل عن ابنائنا و الحلائل
روی مسلم عن ابي ذر الغفاري (رض) ان هذه الآية (هذان خصمان اختصموا في ربهم) نزلت فيهما . و مات عبيدة و هو أول شهداء بدر.
و تزاحف القوم و استعرت الهيجاء و أمر النبي | و اصحابه بأن لا يحملوا حتی يأمرهم فان اکتنفوکم فانضحوهم عنکم بالنبل. و قد دارت رحی الحرب و تقدم أبوجهل و معه أحد فرسان قريش و قد أفرغ عليه لامة حربه و أمره بالنزول الی المعرکة فقابله حمزة و ضربة ضربة ازهقت روحه و قال خذها و انا ابن عبد المطلب و هو يظنه أبا جهل و قدم أبو جهل فارسا آخر فتلقاه علي و لم يمهله ان اراداه قتيلا و ثار النقع و جعلت رؤوس قريش تطير عن اجسادها و المسلمون يزدادون قوة کل ما اشتدت الحرب . ووقف النبي | في حومة الوغی و أخذ حفنة من الحصباء ورمی بها قريشا و قال شاهت الوجوه سيهزم الجمع و يولون الدبر. و قال لاصحابه : شدوا عليهم فخاض علي وحمزة المعرکة يذکون نيرانها ويحطمون شجعانها و تابعهما ابطال المسلمين. و استولی الذهول علی المشرکين و اشتد عليهم البلاء. و لقي معاذ بن عمرو بن الجموع أبا جهل و قريش محيطة به و هم يصيحون لا يخلص احد الی أبي حکيم بسوء قال معاذ: فجعلت أترصده حتی تمکنت منه و حملت عليه و ضربته ضربة ابنت قدمه، و ضربني ابنه عکرمة فطرح يدي من عاتقي. ثم مر بأبي جهل معوذ بن عفراء فضربه ضربا مبرحا ثم مر ابن سعود بين القتلی فوجده في آخر رمق فوضع رجله علی عنقه و قال هل أخزاک الله يا عدو الله فقال له أبو جهل لقد ارتقيت مرتقی صعبا يا رويعي الغنم فقال له اني قاتلک قال ما انت أول عبد قتل سيده و ان أشد شئ لقيته قتلک اياي فقطع رأسه و جاء به الی النبي الله عليه و آله فسجد لله شکرا.
قال عبد الرحمن بن عوف کان امية بن خلف صديقا لي بمکة فرأيته يوم بدر و قد احجم من الخوف فقال لي من الرجلان منکم احدهما المعلم بريشة نعام في صدره الشاب الذي في جانبه.؟ قلت الاول حمزة بن عبد المطلب و الثاني ابن اخيه علي ابن ابي طالب . فقال لقد فعلا بنا الافاعيل حيث تحديا رؤوس قريش و زعماءها و استأصلوهم . و بينا انا واقف معه و اذا بلال يصيح هذا امية بن خلف رأس الکفر فقتلا هو وولده و تعرض حنظلة بن ابي سفيان الی علي × فقتله علي ×.
و دارت الدائرة علی المشرکين فقتل و اسر من اسر و انتصر الاسلام و اهله و انخذل الشرک و اهله. و جئ بالاسری الی رسول الله | فأمر ان لا يقتلوا بني هاشم لانهم خرجوا مع قريش کرها و لانهم حموه من اعدائه في مکة. و أمر ان لا يقتل ابو البختري لانه کان ممن نقض الصحيفة.
و کان عدد قتلی المشرکين سبعين و الاسری سبعين قتل منهم امير المؤمنين علی وحده ما يزيد علی ثلاثة و عشرين فکان بلاؤه × في بدر عظيما و قسطه منها القسط الاوفر و نصيبه فيها النصيب الاوفی و قدحه بها القدح المعلی. فبسيفه انتصر الاسلام و باقداحه تقدم المسلمون و بصولته صال الايمان علی الشرک.
و کان من استشهد من المسلمين ستة من المهاجرين و ثمانية من الانصارو نزل الوحي علی النبي | بهذه الآية( لقد نصرکم الله ببدر و انتم اذلة) و أمر رسول | ان تطرح القتلی في القليب و وقف قريبا منهم و قال: يا اهل القليب بئس عشيرة النبي کنتم کذبتموني و صدقني الناس، ثم قال يا عتبة، يا شيبة يا امية بن خلف يا ابا جهل بن هشام و عدد اهل القليب .. هل وجدتم ما وعدکم الله حقا فاني وجدت ما وعدني ربي حقا..
و مما لا ريب فيه ان حمزة و علياً کانا فرسي رهان في السبق الی رؤوس قريش و ساداتها فقد حفرا يوم بدر قبور الاصنام و قبور صناديد المشرکين من قريش.
و عاد النبي | الی المدينة و معه اصحابه مصحوبين بالغنائم و الاسری ثم اوصی اصحابه بالاسری خيرا. فکان کل واحد منهم يؤثر اسيره بطعامه. و قسم النفل الذي افاء الله علی المسلمين بينهم بالسواء بعد ان اخرج الخمس.
و أمر النبي علياً × بقتل النضر بن الحارث عند ما مر راجعا و هو بالصفراء فقتله . و أمر عاصم بن ثابت بقتل عقبة بن ابي معيط فلما ارادوا قتله جزع من القتل و قال ما لي اسوة بهؤلاء يعني الاسری فقتل بعرق الظبية.
مقتل أمير المؤمنين علي ×
شاء الله ان يصيب و ليه الشهادة و يبوأه مراتب الصديقين الشهداء في أعلی عليين في أجل الشهور عنده و اقدسها لديه فکان ذلک في شهر رمضان في اليوم التاسع عشر منه سنة اربعين هجرية.
و کان السبب في ذلک ان نفرا من الخوارج اجتمعوا بمکة فتذاکروا فيما بينهم فعابوا الامراء و شنأوا اعمالهم. و ذکروا اهل النهروان و ترحموا عليهم. و قالوا لو اننا شرينا انفسنا لله فاتينا ائمة الضلال و طلبنا غرتهم و ثأرنا باخواننا الذين قتلوا بالنهروان. فتعاهدوا علی ذلک عند انقضاء الحج. فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي عليه لعنة الله انا اکفيکم علياً و قال البرک بن عبدالله التميمي انا اکفيکم معاوية و قال عمروبن بکر انا اکفيکم عمرو بن العاص. فتعاهدوا ان لا ينکص احدهم عن صحابه حتی يقتله أو يموت دونه. فسموا سيوفهم و اتعدوا علی ذلک لتسع عشرة من رمضان و قيل لسبع عشرة منه و قصد کل واحد منهم الجهة التي يريدها.
فاما البرک فاتی الشام و ضرب معاوية و هو راکع فوقعت الضربة علی اليته و لما قبضوا عليه قال: ان لک عندي بشارة و هي ان علياً يقتل في هذه الليلة فاحتبسني عندک فان لم يقتل فاني اعاهدک ان امضي فاقتله ثم اعود اليک فلما اتی الخبر بقتل علي × خلی سبيله.
و اما عمرو بن بکر فمضی الی الفسطاط- بمصر- و کان ابن العاص قد شرب دواء و خرج صاحب شرطته خارجة بن ابي حبيبة يصلي بالناس فضربة و هو يظنه عمرو ابن العاص فاتي به عمروا فقتله و في ذلک يقول بن زيدون من قصيدة طويلة مشهورة:
فليتها اذ فدت عمروا بخارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر
و اما ابن ملجم فانه اتی الکوفة فلقي بها اصحابه فکتمهم أمره ثم رأی صاحبا له من بني تيم الرباب فصادف عنده قطام بنت الاخضر. و کان أمير المؤمنين علي × قتل اباها و اخاها بالنهروان، و کانت من اجمل نساء زمانها فلما رآها بن ملجم شغفته حباً فخطبها فاشترطت عليه ثلاثة الاف و عبدا و قينة و قتل أمير المؤمنين .و فقال لها لک جميع ما سألت و اما قتل علي فانی لي بذلک قالت التمس غرته فان انت قتلته شفيت نفسي و هناک العيش معي… فقال و الله ما اقدمني هذا المصر الا ما سألتني من قتل علي، فطلبت له من يساعده علی ذلک فبعثت اليه وردان بن مجالد فخبرته الخبر و سألته معونة ابن ملجم فأجابها الی ذلک . و خرج ابن ملجم فاتی رجلا من اشجع يری رأي الخوارج يقال له شبيب بن بجرة فعرض عليه الامر فقال هبلتک الهبول لقد جئت شيئا اداً و کيف نقدر علی ذلک.؟ قال نکمن له في المسجد الاعظم فاذا خرج لصلاة الفجر فتکنا به ولم يزل به حتی أجابه و اشعرا قطام و هي معتکفة في المسجد قد ضربت عليها قبة فقالت اذا اردتما قتله فالقياني في هذا الموضع و في ليلة الاربعاء و قيل ليلة الجمعة لتسع عشرة خلت من رمضان اتياها و معهما وردان فعصبت صدورهم بالحرير و تقلدوا سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي کان يخرج منها أمير المؤمنين علي × الی الصلاة. و کان الاشعت بن قيس قد و اطأهم علی ذلک و حضر في تلک الليلة الی المسجد ليعاونهم فلما خرج سلام الله عليه نادی ايها الناس الصلاة الصلاة ثم دخل محرابه و أقام الصلاة فصلی الرکعة الاولی و قام الی الثانية فلما سجد السجدة الثانية منها هجموا عليه، فضربه و صاح أمير المؤمنين لا يفوتنکم الکلب. و لم يتأوه و صبر و احتسب ووقع علی وجه قائلا بسم الله و بالله و علی ملة رسول الله . هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله . فزت و رب الکعبة. و ثار من في المسجد و صاروا يدورون و لا يدورون اين يتوجهون من هول الصدمة و شدة الدهشة و احتمل الناس أمير المؤمنين الی داره و اوصی ان يتقدم جعدة بن هبيرة و هو ابن اخت أمير المؤمنين ام هاني ليصلي بالناس الغداة و شد الناس علی ابن ملجم فقبضوا عليه. فقال أمير المؤمنين × احظروا الرجل عند ي فأدخل عليه فقال أي عدو الله ألم أحسن اليک قال بلی؟ قال فما حملک علی هذا. قال يا أميرالمؤمنين أفأنت تنقذ من في النار، قال صدقت، ثم التفت الی ولده الحسن × و قال بني ارفق بأسيرک اطعمه مما تأکل واسقه مما نشرب ثم دعي اليه بالطبيب الجراح أثير بن عمرو السکوني ليعالج جرح امير المؤمنين و لما جاء و نظر اليه قال يا أمير المؤمنين اعهد عهدک فان الضربة و صلت الی أم رأسک فلما سمع الناس اخذوا بالبکاء و العويل، و قام حجر بن عدي الکندي فأنشد:
فوا أسفي علی المولی التقي ابي الاطهار حيدرة الزکي
قتيلا قد غدا بحسام نغل لئيم فاسق رجس شقي
استشهاد أمير المؤمنين علي ×!
في الليلة الحادية و العشرين من شهر رمضان سنة اربعين هجرية استشهد بطل الاسلام اسد الله الغالب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب × متأثرا من ضربة اشقي الاولين و الاخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي عليه لعائن الله.
جاء في تذکره الخواص ان أمير المؤمنين علي × انشد قبل قتله بثلاثة أيام:
تلکم قريش تمناني لتقتلني | فلا و ربک ما فازوا و لا ظفروا | |
فان بقيت فرهن ذمتي لهمو | بذات ودقين لا يعفو لها أثر[1] | |
و ان هلکت فاني سوف اورثهم | ذل الممات فقد خانوا و قد غدروا |
و في الاستيعاب ان أمير المؤمنين علي × قال في سحر اليوم الذي ضرب فيه ملکتني عيني و انا جالس فسنح لي رسول الله | فقلت يا رسول الله ما ذا لقيت من امتک من الاود و اللدد[2] فقال ادع عليهم فقلت ابدلني الله بهم خيرا منهم و ابدلهم بي شرا لهم مني و في ارشاد المفيد لما دخل رمضان کان أمير المؤمنين علي × يتعشی ليلة عند الحسن و ليلة عند الحسين عليهما السلام و ليلة عند عبد الله بن جعفر و کان لا يزيد علی ثلاث لقم فقيل له في ذلک فقال يأيتني أمر الله و انا خميص، انما هي ليلة او ليلتان فأصيب في آخر الليل.
و في امالي الطوسي باسناده الی الاصبغ بن نباتة قال: لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علياً بن ابي طالب × غدونا عليه في نفر من اصحابنا انا و الحارث و سويد بن غفلة و جماعة معنا فقعدنا علی الباب فسمعنا البکاء من الدار فبکينا فخرج الينا الحسن بن علی عيلهما السلام فقال يقول لکم أمير المؤمنين انصرفوا الی منازلکم فانصرف القوم غيري و اشتد البکاء فبکيت و خرج الحسن فقال ألم أقل لکم أنصرفوا فقلت لا و الله بابن رسول الله ما تتابعني نفسي و لا تحملني رجلاي ان انصرف حتی اری أمير المؤمنين قال وبکيت ودخل الدار ولم يلبث ان خرج فقال لي ادخل فدخلت علی امير المؤمنين فاذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمه و اصفر وجه فما ادري وجه أشد صفرة أم العمامة فاکببت عليه فقبلته و بکيت. فقال لا تبک فانها و الله الجنة. فقلت جعلت فداک اني اعلم و الله انک تصير الی الجنة و انما ابکي لفقداني اياک.
ثم ان أمير المؤمنين صلوات الله و سلام عليه اوصي و صيته و عهد بعهده الی ولده الحسن سلام الله عليه و قال له اذا انا مت فغسلني و کفني و حنطني ببقية حنوط جدک رسول الله | ثم ضعني علی سريري و احملوا مؤخره و اتبعوا مقدمه فاينما و ضع المقدم فضعوا المؤخر فهو موضع قبري فاذا فرغت من الصلاة عليّ فنح ِالسرير عن موضعه ثم اکشف التراب عنه فستری قبرا محفورا و لحدا مشقوقا و ساحة منقورة فاضجعني فيها ثم اشرج اللحد باللبن و اهل التراب عليّ ثم غيب قبري.
و لم يزل يقول لا اله الا الله حتی قبض صلوات الله و سلامه عليه.
حدُ إبن ملجم عليه لعنة الله
هذا و حول حد هذا المجرم اللعين يقول سماحة آية الله الشيخ ماجد الکاظمي ان حده هو حد قاتل الانبياء بان يقتل ثم يحرق کما اجراه الامام الحسن × فقد قال الشيخ المفيد(ره) فی الارشاد[3] انه جاء الناس الی اميرالمومنين × فقالوا يا اميرالمونين مرنا بامرک فی عدو الله و الله لقد اهلک الامة و افسد الملة فقال لهم ان عشت رأيت فيه رأيي و ان هلکت فاصنعوا به کما يصنع بقاتل النبي| اقتلوه ثم حرقوه بعد ذلک بالنار… و مثله روی ابن عساکر في تاريخه فقال فی ترجمته× اخبرنا ابو علي ابن السبط قال: لما ضرب ابن ملجم علياً الضربة قال عليّ: افعلوا به کما اراد رسول الله| ان يفعل برجل اراد قتله فقال: اقتلوه ثم حرقوه[4] و کذلک روی ابن شهر آشوب فی المناقب عنه × انه قال: و ان هلکت فاصنعوا به ما يصنع بقاتل النبي فسئل عن معناه فقال اقتلوه ثم احرقوه بالنار[5] .
ولا يخفی ان ابن ملجم من المحاربين وقد نص القرآن الکريم بقوله: ( انما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم و ارجلهم من خلاف او ينفوا من الارض ) و حيث ان اميرالمومنين × نفس النبي | و حربه حرب النبي | فمحاربه محارب لله والرسول (ص) والخارج عليه خارج عن الاسلام ومحکوم بالارتداد والکفر.
وعليه يعلم ان ما في بعض الاخبار من انه يضرب ضربة بضربة مخالف للقرآن و للروايات المتقدمة و سيرة الامام الحسن× من قتله و احراقه و الظاهر ان هذه الرواية محرفة و ان اصلها و ان عشت فضربة بضربة او اعفو کما نقل سبط ابن الجوزي في التذکرة.[6]
فتح مکة المکرمة
کانت خزاعة داخلة في عهد النبي | و بنو بکر من مناف داخلة في عهد قريش في معاهدة الحدبية المعقودة بين النبي | و بين قريش فسمع رجل من خزاعة رجلا من بني بکر ينشد هجاء للنبي صلي الله عليه و آله فهاج عليه فشجه واحتدم الشر بين العشيرتين و بيتت بنو بکر خزاعة بما يقال له- الوثير – و اعانت قريش بني بکر بالسلاح و الدواب و قاتل معهم جماعة منهم صفوان بن امية و عکرمة بن ابي جهل و سهل بن عمرو و بذلک نقضت قريش العهد مع النبي | فخرج عمرو بن سالم الخزاعي الی النبي وانشده:
يا رب اني ناشد محمدا | حلف ابينا و ابيه الا تلدا | |
ان قريشا اخلفوک الموعدا | و نقضوا ميثاقک المؤکدا | |
هم بيتونا بالوثير هجدا | و قتلو نا رکعا و سجدا |
فقال النبي | قد نصرت يا عمرو و تجهز النبي | الی مکة و قال اللهم خذ العيون و الاخبار عن قريش حتی نبغتها في بلادها و خرج النبي | لعشر مضت من شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية و لقيه العباس بن عبد المطلب بالجحفة مهاجرا فأمره النبي | ان يرسل رحله الی المدينة و يعود معه، و لقيه مخرمة بن نوفل و ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و عبدالله بن امية و لم يقبلهم النبي | فقال علي × لابي سفيان بن الحارث قل لرسول الله | ما قال أخوة يوسف :تالله لقد آثرک الله علينا و ان کنا لخاطئين، ففعل ذلک فقال النبي |: لا تثريب عليکم اليوم يغفر الله لکم و هو ارحم الراحمين، فاسلموا و انشد أبو سفيان:
لعمرک اني يوم احمل راية | لتغلب خيل اللات خيل محمد | |
لک المدلج الحيران اضلم ليله | فهذا أواني حين اهدي و اهتدي |
و کان مع النبي | عشرة الاف فارس فقال العباس يا هلاک قريش لان بغاها النبي | فدخل عنوة، و خرج ليری من يبعثه الی مکة حتی يستأمنوا فسمع صوت ابي سفيان و حکيم بن حزام و بديل بن ورقاء خرجوا يتجسسون فجاء بأبي سفيان الی النبي | و قال العباس يا رسول الله لقد اجرته فقال النبي | قد أمناه تغدوا علي به ، فغدا عليه به فقال النبي | أما آن لک ان تعلم ان لا اله الا الله؟؟ قال بلی لو کان مع الله غيره لاغنی شيئا يوم بدر، فقال و يحک ألم يأن لک اني رسول الله؟؟ ، قال بابي انت و امي اما هذه ففي نفسي منها شئ فقال له العباس اشهد شهادة الحق قبل ان تضرب عنقک فقالها و لسانه يتلعثم، و اسلم صاحباه معه، و حبسه العباس عند مضيق الوادي فمرت به الجنود فقال يا عباس ان ملک ابن اخيک لعظيم فقال و يحک انها النبوة قال اذن نعم؟؟ و دخل النبي | مکة في العشرين من شهر رمضان، و کانت رايته بيد أمير المؤمنين علي × و قد جرت بعض المناوشات في الخندمة و غيرها قتل فيها جماعة من المشرکين و فر الباقون ، و نادی منادي النبي | من دخل البيت الحرام فهو آمن و من القی سلاحه فهو آمن و من اغلق باله فهو آمن و من دخل بيت ابي سفيان و حکيم بن حزام فهو آمن ، و لما دخل النبي | مکة کانت عليه عمامة سوداء فوقف علی باب الکعبة و قال لا اله الا الله وحده صدق وعده و نصر عبده و هزم الاحزاب وحده ، الا کل دم او مأثرةُ أو مال يدعی فهو تحت قدمي هاتين الا سدانة البيت و سقاية الحاج ثم قال يا معشر قريش ما ترون اني فاعل بکم قالوا خيرا أخ کريم وا بن اخ کريم قال اذهبوا فانتم الطلقاء، و طاف في الکعبة سبعا و دخلها و صلی فيها، و کان علی الکعبة ثلثمائة و ستون صنما فکان يشير اليها و يقرأ جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل کان زهوقا، و هي تسقط لوجوهها.
و جاء في السيرة الحلبية: قال علي × دعاني رسول الله | ليلا و انطلق بي الی الکعبة، و قال اجلس و صعد علی منکبي و قال انهض فلما رأی ضعفي قال اجلس، ثم قال يا علي اصعد علی منکبي و في رواية انه قال له اني اکرمک ان اعلوک فقال يا علي لا تستطيع حمل النبوة اصعد انت فصعد علی کاهله و أمره ان يلقي صنمهم الاکبر و کان من نحاس فالقاه موتدا بأوتاد من حديد فصار يعالجه و يقول ايه ايه «جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل کان زهوقا» فقذفه و تکسر و طهر البيت الحرام من الاصنام.
ثم أمر النبي | بلالا(رض) فأذن فوق الکعبة و صلی النبي اماما و بعد ذلک جلس للبيعة و اجتمع الناس لبيعته علی الاسلام فکان يبايعهم علی السمع و الطاعة لله و لرسول فيما استطاعوا.
و حديث فتح مکة فيه کثير من العبر و قد اغفلنا الجانب العظيم منه للاختصار و لضيق المجال، و کان فتح مکة في السنة الثانية هجرية لعشر ليال بقين من شهر رمضان المبارک.
[1]– ذات و دقين :- الحرب الشدة-
[2] – الاود:- الاعوجاج. اللدد:- الخصام.
[3] -مستدرک نهج البلاغه ج7 ص 124 تاليهف محمد باقر المحمودي مطبعة النعمان.
[4] -تاريخ ابن عساکر ص 153
[5] -مستدرک نهج البلاغة ج/7 ص 112
[6] – مستدرک نهج البلاغة ج/7 ص 102